عودة القوّات المسلّحة العربية إلى الثكنات
عودة القوّات المسلّحة العربية إلى الثكنات
13 نيسان/أبريل 2021
فيليب دروز فينسينت

إن إعادة تنشيط السياسة الحزبية المدنية أمر ضروري لتسهيل عودة القوّات المسلّحة العربية إلى ثكناتها.

يحاكي جزم القوّات المسلّحة العربية السياسي بعد ما يسمى بالربيع العربي ومرة ​​أخرى في عام 2019 (في الجزائر والسودان) تدخلاتها السياسية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كما يحاكي كذلك تدخلات القوّات المسلّحة في أمريكا اللاتينية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. أصبحت القوّات المسلّحة العربية إما مدافعة عن الدولة، أو مهجنة بسبب ظهور الميليشيات الموازية، أو حتى تفكيكها من قبل جهات غير تابعة للدولة. انخرطت القوّات المسلّحة العربية في العقد الثاني من القرن الحالي في حروب أهلية وحملات مكافحة التمرد وقمع على نطاق أوسع بكثير مما كانت عليه في ظل الحكم الاستبدادي في الفترة الممتدة بين سبعينيات القرن الماضي وعام 2011. وعلى الرغم من دخول القوّات المسلّحة في أمريكا اللاتينية إلى المشهد السياسي بصورة مماثلة، إلا أنها عادت إلى الثكنات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. مما يدعو لطرح السؤال: ما الذي يمكن أن يحقق مثل هذه العودة إلى الثكنات في الدول العربية؟

المعقل القديم للسياسة العسكرية

أمريكا اللاتينية هي المعقل التاريخي للسياسة العسكرية، حيث صعدت القوّات المسلّحة إلى السلطة من خلال المجالس العسكرية التابعة للجنرالات الحاكمين الذين شنوا قمعًا داخليًا شرسًا باسم الأمن القومي. إلا أن فشلهم في الحكم والمعارضة من قبل الأحزاب السياسية المدنية والكنائس ومنظمات المجتمع المدني، وإلى حد ما، التعبئة الجماهيرية، دفعاهم إلى العودة إلى الثكنات. وظلوا في ثكناتهم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، على الرغم من أن السياسيين والحركات الاجتماعية المثيرة للجدل دعوهم إلى التدخل في السياسة أثناء الأزمات الناجمة عن التفاوتات الاجتماعية العميقة والتضخم المرتفع والنمو المنخفض. حتى لم يخالف الرئيس جاير بولسونارو في البرازيل هذا الاتجاه. تم تجديد العلاقات العسكرية المدنية في أمريكا اللاتينية بإخراج القوّات المسلّحة من السياسة، غالبًا على حساب التغافل المؤقت عن انتهاكات حقوق الإنسان والامتيازات العسكرية الهائلة.

لم تكن القوّات المسلّحة في أمريكا اللاتينية جزءًا راسخًا من الأنظمة الحاكمة كما هو الحال في الدول العربية. إذ حكمت القوّات المسلّحة في أمريكا اللاتينية بالاعتماد على حلفاء سياسيين مدنيين، غالبًا من الأحزاب اليمينية. ولم تخلق القوّات المسلّحة في دولها شبكات نفوذ معقدة قائمة على العائلة أو العشيرة أو المنطقة أو الطائفة، ولم تبن تحالفات عميقة داخل المجتمع، ولم تؤسس اقتصادات سياسية قائمة على المحسوبية للحفاظ على حكمهم الحصري. كذلك، لم تحكم القوّات المسلّحة لمدة أربعة أو خمسة عقود، ولم تتخلص من كل المعارضة السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني.

حاولت القوّات المسلّحة في أمريكا اللاتينية أن تحكم، حتى أنها قامت بأدوار اقتصادية ضخمة، لكنها فشلت في الغالب في إدارة اقتصاداتها بكفاءة. حتى في تشيلي بعد عام 1973، حيث كان الضباط منتشرون في أروقة الحكومة كما هو الحال في بعض الدول العربية في عام 2021، اضطر بينوشيه إلى التفاوض بشأن الانتقال بعد عام 1988. والأهم من ذلك أن القوّات المسلّحة في أمريكا اللاتينية لم تحل محل شرعية الحكم الدستوري والمدني، ولكن في الدول العربية لم تكن هناك تناوب مماثل بين الحكم المدني والعسكري يمكن للمدنيين الاستفادة منه. أدت قوّة مؤسسات المجتمع المدني والمعارضة الحزبية إلى مساعدة المدنيين على العودة إلى الواجهة في أمريكا اللاتينية، بينما قضى الاستبداد على هذه المزايا في الدول العربية.

معقل جديد للسياسة العسكرية

إنّ العلاقات العسكرية المدنية في الدول العربية مختلفة. فلم تَضعف المؤسسات العسكرية العربية بعد سنوات قليلة في السلطة المباشرة، رغم ظهور العديد من الإخفاقات، بل إنها أظهرت صورة إيجابية تحت شعارات مثل "الشعب والجيش إيد واحدة"، على الرغم من الارتباط الطويل الأمد بأنظمة الحكم السابقة. ولم تُضعف الإصلاحات الاقتصادية المؤسسات العسكرية، بل إنها استفادت من الخصخصة والمشاريع الاقتصادية الجديدة.

استخدمت القوّات المسلّحة العربية ترسخها في الأنظمة الحاكمة لتأكيد نفسها في عام 2011. كما استفادت من سياق إقليمي مختلف عن أمريكا اللاتينية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث أدى توسع البيئة الديمقراطية السلمية إلى زيادة احتمالية العودة إلى الثكنات. في المقابل، غرقت ليبيا وسورية واليمن في حروب أهلية متقطعة أو مطولة على طول العقد الماضي، بحيث أصبحت ملاعب للقوى الإقليمية. كأي شعب في أي مكان، يسعى المواطنون العرب إلى اختيار حكامهم وتقليل القمع، لكن تضعف جاذبية المُثُل الديمقراطية عندما يتدهور الأمن الاقتصادي والمادي. يستطيع الاستبداديون الفطنون صنع شرعية (ضعيفة) باسم الاستقرار وتنشيط الاستبداد وجاذبيته، و ذلك بمساعدة من الاستخبارات العسكرية المتلاعبة.

بأي حال من الأحوال، لا تعتبر القوّات المسلّحة العربية منتصرة. فالقوّات المسلحة المصرية مثلاً أكثر انخراطًا في الحوكمة اليومية، وهو أمر له ثمنه. وفي ليبيا واليمن، طغت الحرب الأهلية وكذلك التنافس بين الجهات الغير تابعة للدولة على القوّات المسلّحة، حتى أن بعض الجهات الفاعلة قامت بتفكيك القوّات المسلّحة. حاولت روسيا، بشكل مختلف عن إيران، إعادة الجيش السوري كركيزة أساسية لنظام الأسد، وهي مهمة صعبة للغاية. ومع ذلك، يمكن للاستبداد العسكري أن يصبح متجذر لفترة طويلة من الزمن في مثل هذا السياق الإقليمي الذي يتسم بالحساسية الأمنية والعنف، حتى وإن كان ذلك في شكل ضعيف.

إعادة تنشيط السياسة المدنية

خلاصة القول أنه تتطلب العودة إلى الثكنات في الدول العربية إعادة تنشيط السياسة المدنية، ما يتطلب بدوره إضفاء الشرعية على الأحزاب المدنية، ووجود قادة لا يتركون كامل صناعة القرار في قطاع الدفاع في أيدي العسكريين، وتوفير رقابة برلمانية، والاستفادة من ثقل المجتمع المدني الموازن، في بيئة أكثر هدوءًا. وإلا فإن القوّات المسلّحة العربية ستظل في مواقعها الحاكمة لفترة طويلة.

 

فيليب دروز فينسينت أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في معهد غرينوبل للدراسات السياسية ومؤلف كتاب السياسة العسكرية في العالم العربي المعاصر.


 
آخر التغريدات


تواصل معنا