حزبُ الله
وصف نائب رئيس الأركان للتخطيط في الجيش اللبناني العميد الركن المُتقاعد مارون حتّي العلاقات بين الجيش وحزب الله بكونِها علاقات تتميّزُ بـ"تفادي النزاع وضمان المصالح في كُلّ حالة على حِدَة". وتَنشط قيادةُ الجيش اللبناني ومُديرية المُخابرات لتفادي النزاع مع حزب الله على المُستوى الاستراتيجي عند الحاجة، في سِمة شاذّة من سمات التسوية السياسية في لبنان بعد الحرب الأهلية. شهدت الديناميات الناتجة عن هذه التسوية مَدًّا وجَزرًا بخُصوصِ شرعية حزب الله، وهو تنظيم شبه عسكري وسياسي شيعي، والجيش اللبناني، الذي هو مؤسسة أمنية وطنية ذات تمثيل طائفي شامل.
لقد أضفى اتّفاق الطّائف لعام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية، الشرعية على سلاح حزب الله تحت عنوان "المُقاومة" ضدّ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، بدعمٍ من سورية ورَاعِيتها الدولية إيران. وفي السياق ذاته، قيَّدت أجهزة المخابرات السورية دور المؤسسة العسكرية اللبنانية في فترة ما بعد الحرب بدور الحفاظ على النظام العام، وذلك خدمةً للمصالح السورية.
عطّل رحيل الأجهزة المخابراتية والقوات المسلحة السورية من لبنان في عام 2005 تأثير حزب الله البالغ في صنع قرارات الأمن الوطني، فيما أعاد تأهيل شرعية الجيش اللبناني في المجال ذاته تدريجيًّا. وبمساعدة عسكرية دولية من الولايات المتحدة وشركاءٍ آخرين، حاول الجيش اللبناني تطويرَ مصداقيته واستقلاليته العسكرية وتعميقهما والحفاظ عليهما. ولكن على الرغم من هذه المكاسب المؤسساتية، لا يُمكن للجيش أن يتجاهل حزب الله، الذي حافظ على سُمعته الجيدة في صفوف شريحةٍ كبيرةٍ من الطائفة الشيعية في لبنان. وطالما أن حزب الله يُسيطر على هذا التأييد، فلا خِيارَ أمام الجيش اللبناني وحزب الله سوى الحفاظ على علاقاتٍ تجمع البرود والودّ معًا، على الرغم من التوتُّرات الجدّية التي تنشأ بينهما في كثيرٍ من الأحيان.
يعزّز تنافس النخب السياسية الطائفية تفضيل الجيش اللبناني للحياد السياسي. وساهمت هذه المنافسة بين النخب الطائفية في الحروب الأهلية عام 1958 وللفترة الممتدة بين 1975 و1990، عندما كافح الجيش اللبناني للحفاظ على وحدة القيادة والسيطرة في ظل تفكّك الوحدات أو قتالها إلى جانب أحد الفصائل المتحاربة. ويعمل سلك الضباط على تجنب تكرار تلك الواقعة، لكن هذا الإرث يجعل الجيش يتجنب المخاطرة. إنه يطيع القادة المدنيين، لكن يتوقف تنفيذه الأوامر أو تهربه منها على ما إذا كانت هذه الأوامر تُهدّد الاستقرار والتعايش السلمي الطائفي أو وحدة الجيش. ساهمت سمعة الجيش المتميزة بحياده السياسي في انتخاب أربعة من كبار القادة العسكريين للرئاسة، على الرغم من أن معظم الضباط لا ينتقلون إلى أدوار سياسية مؤثرة بعد التقاعد.
يُصارع الجيش اللبناني لتحقيق التوازن بين السياسات الطائفية في لبنان وبين الحفاظ على الاحترافية العسكرية. وعمِلت النخب السياسية الطائفية المتنافسة على عدم إعطاء الأولوية للتطور العسكري وعلى تقييد المؤسسة العسكرية بالأدوار الداخلية والشُرَطية، وذلك لمنع الجيش من تقويض الاستقلالية السياسية والاقتصادية لهذه النخب الطائفية. وتقوم قيادة الجيش باختياراتٍ مبنية على المسار المهني والكفاءة لتولي المناصب وصولًا إلى مرتبة قادة الألوية، ولكنها تتمتع بمرونةٍ أقلّ بالنسبة إلى اختيار نواب رؤساء الأركان وقادة الألوية. إن اختيار قائدٍ جديدٍ للجيش يُمكن أن ينطوي، أيضًا، على إيحاءاتٍ سياسيةٍ خلافيةٍ بين النخب السياسية الطائفية، مما يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى تعيينٍ توافقي.
سعى الجيش إلى تعزيز هويته المؤسساتية في مواجهة المصالح الشخصية والزبائنية السياسية في صفوف السلطات المدنية. إن تماسك المؤسسة العسكرية ليس منتظمًا على الدوام في أي حال من الأحوال، لكن أصبح الجيش أحد أكثر المؤسسات الوطنية اللبنانية احترافية. ويعود ذلك، إلى حدٍ كبير، إلى المساعدة الأمنية الغربية.
تُشكّل جماعة حزب الله شبه العسكرية، بموجب تسلسلها القيادي الخاص بها وتنسيقها الوثيق مع إيران، تحدّيًا طويل الأجل للسياسات العسكرية اللبنانية. إذْ يتمتع حزب الله بدعمٍ شعبيٍّ واسع النطاق في صفوف أنصاره ومنتخبيه ذوي الأغلبية الشيعية المسلمة، مما يجبرُ الجيش اللبناني على مراعاة تفضيلات الحزب السياسية. وهذا لا يختلف عن المنهج المُتّبع من قبلِ الجيش تُجاه الفصائل الأخرى التي تبقي على قوّاتٍ غير نظاميةٍ، مثلها مثل حزب الله.
مشاركة الجيش اللبناني على مواقع التواصل الاجتماعي
تويتر
التَغريدات
4,541
المتابعين
392,403
مُدرَج في قائِمة
323
فيسبوك
الإعجابات
305,316
المتابعين
312,357
يتَحدّثون عن هذا
34,766
يوتيوب
التحميلات
328
المُشتركين
17,700
المُشاهدات
4,351,743
تؤثر السياسة الطائفية اللبنانية المثيرة للانقسامات على كيفية التفاعل بين الهيئات الحكومية العسكرية والمدنية. إن وزراء الدفاع المدنيون على الدوام، لكنهم كثيرًا ما ينتمون إلى فئة سياسية طائفية داخل الحكومة. ويؤدي ارتفاع مُعدّل التعيينات السياسية إلى الافتقار إلى الخبرة اللاّزمة لدى المدنيين في مجال الدفاع وإلى إعاقة القدرات على التخطيط ووضع الموازنة. ويؤدّي هذا إلى ضعفٍ في التنسيق وعدم الثقة المؤسساتية بين الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى.
لا يهيمن الجيش اللبناني على الفضاء السياسي، على الرغم من تتمتّعه بدعمٍ قويّ في أوساط مختلف الطوائف. فهو لا يركز على الحفاظ على النظام السياسي الحالي بل يسعى إلى أن يبقى محايدًا إزاء المناقشات العلنية والتغييرات السياسية، طالما يتم ذلك بطرق سلمية. عمومًا، يُسمح في لبنان بالمناقشة العلنية حول شؤون الدفاع، لكن النقص في المعلومات وضعف الاستجابة من جانب الجيش والنخب السياسية الطائفية كثيرًا ما يعيق ذلك. يناقش المهتمين بالسياسات العامة ميزانية الدفاع بنشاط، ولا يُمنع المحللون المختصّون في مجال الدفاع من توجيه أسئلةٍ مُحرجةٍ إلى الجيش أو الحكومة حول الشؤون المالية للدفاع.
بناء الوطن والمواطنة
التماسك في الجيش اللبناني
تُساهم عدّة عوامل في تماسُك الجيش اللبناني، بالرغم من التعدُّد الطائفي في لبنان. ويتمثّلُ العامل الأول في الروح الجماعة العسكرية. إذْ يَفخرُ أفراد الجيش بالانتماء إلى إحدى مؤسسات الدولة اللبنانية القليلة التي تعمل بشكل جيد وتحظى بالاحترام، ممّا يُعزّز الشعور المُشترك بالانتماء والولاء للمؤسسة العسكرية. إن هذا الشعور قويُّ خصوصًا في صفوف وحدات النخبة في القوات الخاصّة. أمّا العسكريون الذين ينتهكون مبادئ الولاء، فيتعرَّضُون للنبذ الاجتماعي.
أما العامل الثاني الذي يُساهم في هذا التماسك، فهو توقُّع أن يكون الارتباطٍ بالمؤسسة العسكرية مدى الحياة. إذ غالبًا ما تُترجمُ الوظيفة العسكرية، التي لا تشوبها شائبة والتي تتميّزُ بوضوحٍ عالٍ وأقدمية كافية، إلى فُرصٍ مهنية وربّما سياسية إثر التقاعد. نتيجةً لذلك، يُمكن أن تؤدي الانتهاكات غير الرسمية للأعراف العسكرية أو للسلوك المتوقع من الأفراد إلى فِقدان الاستقرار والاستِحقاقَات والمزايا والفرص المهنية بعد الحياة العسكرية، حتى وإن كانت هذه الانتهاكات لا تُخالف القانون.
أمّا العامل الثالث، فيتعلّق بالطابع الطائفي للجيش اللبناني، الذي يُمثّل مصدر تماسُكٍ في وقت السّلم ولكنه مصدر انقساماتٍ في وقت الأزمات. وإثر الحرب الأهلية التي امتدّت من عام 1975 إلى عام 1990، أصبح الجيش قوةً ذات تَمثيلٍ طائفيٍ أكبر وتمازُجٍ طائفيٍ أكثر بين وحداته. لقد ساهم ذلك في زيادة ثقة المواطنين، لكن التوتُّر الطائفي والعنف المجتمعي لا يزالان يضغطان على تماسك الجيش اللبناني ووحدته.
تُحدد جودة القيادة العسكرية كيفية تفاعل هذه العوامل لتعزيز التماسك أو إضعافه. بعد انسحاب القوات السورية في عام 2005، سعت النخب السياسية الطائفية اللبنانية إلى اختراق التعيينات والترقيات العسكرية والتأثير عليها لمنعِ كبار الضباط من تحدّيهم. وكثيرًا ما يُؤدّي ذلك إلى تعيين كبار الضباط القادرين على الحِفاظ على تماسُك الجيش اللبناني، ولكن غير قادرين على جعله متماسكًا إلى حدّ يتجاوز التنافس السياسي الطائفي تمامًا.
يعد الجيش اللبناني، بعد الحرب الأهلية، واحد من أكثر مؤسسات الدولة تمثيلًا للطوائف المختلفة على الصعيد الوطني. ويفرض القانون التساوي بين المسيحيين والمسلمين في سلك الضباط، ويعمل الجيش بنشاط على تنسيب الرتباء والمنتسبين القادمين من جميع أنحاء البلاد. طوال تسعينيات القرن الماضي، شهد الجيش طفرةً في تنسيب المسلمين الشيعة، ثم شهد في وقتٍ لاحقٍ زيادةً في تنسيب المسلمين السنة من المناطق الشمالية الفقيرة للبلاد. يخضع منتسبو الجيش إلى نظام تدريبٍ عسكريٍ يكرّسُ هويةً عسكريةً مؤسساتيةً فوق كل الانتماءات الجماعية أو الحزبية، لكن التوترات الجماعية في المجتمع تؤدي في بعض الأحيان إلى تفاقم الخلافات الجماعية في صفوف الجيش.
أصبحت الخدمة في الجيش اللبناني تطوعية منذ عام 2007. فكانت الحكومة قد فرضت الخدمة العسكرية الإلزامية كوسيلةٍ لإعادة بناء التماسك الوطني عبر الطوائف المختلفة في أعقاب الحرب الأهلية، وتم تجنيدُ الآلاف من الذكور ممن هم في سن الخدمة العسكرية لمدة عامٍ واحدٍ بين عامي 1990 و2007. وتجاوز التجنيد الفواصل الديموغرافية والطائفية، لكنه تضمن الحدّ الأدنى من التدريب وأنتج قوّةً عسكرية محبطة إلى حدٍّ كبيرٍ، دون ترسيخ الهوية المؤسساتية. ومنذ التخلي عن التجنيد الإلزامي، أصبح الجيش اللبناني أحد أكثر مؤسسات الدولة احترافية.
ينظر المواطنون عمومًا إلى المؤسسة العسكرية على أنها وسيط وحكم صادق في أوقات الأزمات الوطنية، ويُقرّون بتركيبتها الطائفية التمثيلية وامتناعها عمومًا عن التدخل في المجال السياسي. ومع ذلك، فإن محاولات الجيش للحفاظ على هذا الحياد في وجه الاحتجاجات يؤدي أحيانًا إلى تصوّر أنه يدعمُ أحد الأطراف. للمدنيين، وخاصة وسائل الإعلام، الحرية في مناقشة المؤسسة العسكرية أو الشؤون الدفاعية، لكن الرقابة الذاتية كثيرًا ما تحدُّ من هذه المناقشة. كما ويتسبب تصنيف المؤسسة العسكرية السري للبيانات المبالغ فيه في جعل المواطنين ووسائل الإعلام غير مُطّلعة إلى حدٍّ ما على شؤون الدفاع.
بالإضافة إلى التمثيل الطائفي، سعت المؤسسة العسكرية بنشاط، إلى إدماج النساء. وحتى أوائل عام 2020، قام الجيش بتنسيب حوالي 4000 امرأة في صفوفه، بما في ذلك الكوادر النسائية في سلاح الجو (الطائرات ذات الأجنحة الثابتة والمروحيات)، والقوّات الخاصة، والمخابرات العسكرية، والاستخبارات المُضادّة، وإدارة مقرّات القيادة. وقد تذهب قيادة الجيش أبعد، إلى دمج النساء في مهامٍّ قتاليةٍ. ولكنها لم تُواكب تنسيب النساء مع التغييرات المطلوبة في المرافق وقواعد العمل واللوائح. ولا توجد آليّة واضحة للتعامل مع التحرش الجنسي، ولا يمتلكُ الجيش استراتيجيةً واضحةً لمُراعاة المنظور الجندريّ.
ترى المؤسسة العسكرية اللبنانية أن التعاون العسكري المدني جزءٌ لا يتجزأ من المستويات العالية المُكتسبة من ثقة المواطنين في الجيش ودعمهم له، لكن ربط ودمج أنشطة مديرية التعاون العسكري المدني التي تأسست في عام 2014 بالوظائف العسكرية الأخرى ما زال يسير ببطء. ترى المؤسسة العسكرية أن التعاون العسكري المدني عاملًا حاسمًا لتدعيم عمليات الانتشار في أنحاء البلاد التي كانت سابقًا مناطق محظورةً عليها في ظلّ غلبة القرار السوري طوال الفترة الممتدة بين 1990 و2005. ويتفّهم الشُركاء الخارجيون هذه الحاجة، وقد ساعدوا الجيش اللبناني في العمليات المتعلقة بالتوظيف والتطوير في مديرية التعاون العسكري المدني. وإذا تم منحها الفرصة، يفضل الجيش اللبناني أن تتطور مديرية التعاون العسكري المدني إلى قيادة يرأسها نائب رئيس أركان، إلى جانب العاملين والعمليات والخدمات اللوجستيّة والتخطيط.
العسكريون في الخدمة مقابل القوى العاملة